الجسد العربي ‎

Publié le par Walid Ben Azzouz

الجسد العربي

أنا مريض، متعب وأشعر بقهر كجمرة بخرت كل أسباب سعادتي. تحطمت آمالي في النهوض والحبو، أما السير والجري والقفز فأحلام تكاد تستحيل. قلبي ضعيف يكاد ينبض كأهداب نخلة في يوم حارق من صيف جاف.. رئتاي مستنقع بلغ فيه الركود الخضرة..كبدي قسا ثم قسا، قسوة الرخام.. معدتي تذوب ببطء كالقطبين بدخان معامل المعلبات وأطباق السيد دونالد.. أمعائي طعنتها القذائف ورصاصات الكلاشنيكوف.. عيناي اختلطت عليها الألوان فذبلت، كزهرة بنفسجية بداخلها صفرة، في خريف.. في أذني طنين إنذار، صريخ أمهات ورضع، عويل رجال، ضحكات أطفال، قرارات سادة، ونحيب عبيد.. عقلي في شلل كلي سوى بضع خلايا لكي أحس بآلامي وأزماتي.. عضلاتي وعظامي تعبت من مطاردة السلام والزهرة، مطاردة ظل اختفى فجأة تحت غبار حطام المدن التي لم تنهض بعد من سجودها.. هذا جسدي فسدت فيه كل أعضائي فلم تستطع التضامن بعضها لبعض بالحمى والرعشة.. فرقد لساني وتعطل، وتبددت لغتي يوما بعد يوم، فلا أفهم الآن إلا لغو المأساة والعذاب وصراخ المدافع والبنادق. فتطربني وسط غمي طائرات الشبح والهيلكوبتر..

ألا وقلبي مصري، يعاني ضيق الظلم وتعدم شرايينه كل يوم. قلب عاش الفرح، عرفه وداعبه على مسامع أم كلثوم وكلمات النجيب وإبداعات شاهين ونصر 6 أكتوبر.. أما الآن فيعوم في طين أسود اختلط فيه وسخ الجيش ودماء الشباب وغبار الفقر ودموع أمهات، جفت أعينهن في سبيل قدر بخل عليهن براحة الموت..

ألا ورئتاي عراقية امتلأت ذات يوم بعبق حضارة مجيدة وبهواء نسيمه فردوسي نبعه دجلة والفرات.. أما الآن فتعيش يوم قيامتها ويصدق في وصفها مطلع سورة القارعة.. اشتاقت لشهيق عميق عن إحساس بأمان أو حب أو جمال أو خضرة..اختنقت بغازات عربات مفخخة واحتراق غابات شاسعة أشجارها من لحم البشر..

ألا وكبدي ليبي في غليان كالويل، انعدمت فيه الرحمة والشفقة وطغى فيه الطغيان والجنون. جنون أحمق بدون قيود يدمر الجامد والمتحرك، الصديق والعدو، الأخضر واليابس..كبد فقد حمرته الزرقاء فاسود سواد بترول أعمى البصائر..

ألا ومعدتي يمنية تشويها شمس حارقة زادها لهيب فرن وقوده الدماء. يمن تقوده السحالي والأفاعي، وتثور عليها العقارب والثعالب.. وخضرة الصبار الشائك تؤتت مشهدا أمر من العلقم.

ألا وعيناي لبنانية اختلطت عليها ألوان الطوائف والمذاهب والفصائل والأحزاب والأديان.. فاستسلمت لسواد الصراع والاغتيالات وحرب العصابات.. من أجل وحدة.. لم يفهم أطرافها أنها بطبيعتها كقوس قزح ذو ألوان منسجمة. لبنان طفل وديع ذو مقلتين خضراوتين  كزيتونة لم تنضج بعد، يستعصي عليه النوم فتغني له نانسي ونجوى وراغب محاولة تنويمه.. لكنه يرفض النوم ويظل صاحيا شامخا كالأرز، شاهدا على قتل البراءة..

عضلاتي سورية شاخت وترهلت وأرهقت من الجري وراء حرية أجهزت عليها البراميل والصواعق. سورية تنخرها الديدان الداعشية ويحكمها قاتل متسلسل يبني عرشه بأجساد مقدسة.. فوق أطلال حلب وحمص واللاذقية، فوق أطلال الشام..

شهواتي ونزواتي إماراتية وسعودية وقطرية. بناء أبراج وركوب أمواج.. وتملك أضخم السيارات وقضاء نزهة ملكية بمراكش أو ميامي..

طفلاي التوأم المغربي الجزائري لا يهدأ من الشكوى والشجار كشبلين في مراهقة صعبة. من أجل قطعة أرض يمكن تجاوزها بصداقة وفية.

وأجنة ولدتها ميتة وبلغها نسيان غريب. صومال وجيبوتي وجزر قمر يعانون في صمت تحت لحد يسحق أجسادهم النحيفة بالجوع والعطش.

جسدي معلول علة حار فيها علماء المشرق والمغرب، فلم تنفع أدويتهم العقيمة في وقف انتشار سرطان لعين يدعى إسرائيل..

أحتضر في صمت، وأنظر لسقف حجرتي، أرى فتاة شقراء، حسناء، ذات جمال نادر. طفلة ستغدو يتيمة ويزيدها ذلك قهرا. أرى فلسطين بعيونها البراقة محاطة بوحوش من الأعداء والإخوة..أرى وجهها الوردي مرسوما على أنياب الذئاب.. أشم رائحتها، رائحة التراب المعطر بقطرات الندى..أسمع صوتها، صوت فيروز على إيقاع السيوف. أحس بعذريتها وبراءتها وكبريائها ونخوتها التي جعلت منها باب الريان..

أخاف على أبنائي الشباب اليتيم الضائع بين الماضي والحاضر، الشباب المتنكر للغته.. الشباب المتنكر لنفسه.. لكني ألتمس له عذرا كوني لست قدوة حسنة..

وصيتي أن لا تحزنوا على فراقي وتذكروا أن فارسا جبارا قد مر من هنا. إسمه طالما أرعب القلوب : الوطن العربي...

الجسد العربي ‎
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article